من روائع التاريخ العثماني.. القاضي يردّ شهادة السلطان
ترك ميديا
الكاتب: احسان الفقيه
تتضمن حملات الطعن في التاريخ العثماني اتهام علماء “الدولة العليّة” بأنهم لم يكونوا سوى “خياطين” يفصلون الفتاوى الدينية على هوى السلاطين، وأداة بأيدي السلطة لا أكثر.
ومن باب الموضوعية، لا شك أن التاريخ العثماني يحتوي على شيء ما من ذلك، كشأن سائر الممالك، لكن ليس بهذا الشكل الفج الذي يتم ترويجه.
بل إن الصورة الكلية على النقيض تماما، فقد كان لعلماء الشريعة، في كثير من حقب التاريخ العثماني، قيمتهم وهيبتهم لدى السلطة، حيث يتمتعون باستقلالية القضاء والفتوى.
ومن أجلّ ما حملته إلينا كتب التاريخ من شأن هؤلاء العلماء العثمانيين، الذين حافظوا على سمعة مناصبهم الدينية، وأصروا على حماية الفتوى من أي مساس يصدر عن السلطة أو غيرها، هو موقف الملا شمس الدين الفناري من السلطان بايزيد الأول، الملقب بـ”الصاعقة”.
هو شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد الفناري، أحد علماء وقضاة الدولة العثمانية المعروفين، وقال عنه الإمام “ابن حجر” إنه “كان عَارِفًا بالعلوم الْعَرَبيَّة وَعلمِي الْمعَانِي وَالْبَيَان وَعلم القراءات”.
تولى قضاء بورصة، وارتفع قدره عند السلطان العثماني، وصار في مرتبة الوزير، واشتهر ذكره وشاع فضله، وكان حسن السمت.
ولما دخل مصر، وهو في طريقه للحج، اجتمع مع فضلاء العصر وباحثوه وشهدوا له بالفضيلة.
وكان قد أصابه الرمد ففقد بصره، ثم رد الله إليه بصره، فحج حجته الأخيرة شكرًا لله.
جاء في كتاب “الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية”، لـعصام الدين طاشْكُبْري زَادَهْ (المتوفى: 968هـ)، أن الفناري كان إذا خرج إلى الجامع، يوم الجمعة، يزدحم الناس على بابه، بحيث يمتلئ بهم ما بين بيته والجامع.
وأما السلطان بايزيد الأول أو “الصاعقة”، فهو من أشهر سلاطين الدولة العثمانية، وصاحب فتوحات وانتصارات عظيمة على الصليبيين، في حرب حشد لها البابا بونيفاس التاسع لطرد المسلمين من أوروبا، إثر فتح بلغاريا على يد بايزيد.
واشتركت 15 دولة أوروبية في هذه الحرب، بقيادة سيجسموند ملك المجر، ضد العثمانيين، لكن بايزيد انتصر على التكتل الصليبي انتصارا ساحقا في معركة نيكوبولس، عام 1396م.
لنا أن نتخيل سلطانا بهذا الحجم، دخل يوما على القاضي شمس الدين الفناري للإدلاء بشهادة في قضية ما، ووقف أمامه كأي شخص عادي، فنظر إليه القاضي الفناري ثم قال: “إن شهادتك لا يمكن قبولها، لأنك لا تؤدي صلواتك جماعة، والشخص الذي لا يؤدي صلاته في جماعة دون عذر شرعي يمكن أن يكذب في شهادته”.
وللقارئ أن يطلق لخياله العنان ويقرأ على وجوه الحاضرين أثر تلك الكلمات، فضلا عن أثرها على نفس السلطان ذاته، وهو صاحب الانتصارات العظيمة على أوروبا، وربما تصور الحضور أن السلطان سيقطع رأس القاضي لا ريب، ردًا على ما يعتبرونها إهانة كبيرة.
لكن السلطان استدار بهدوء، وغادر مجلس القضاء من دون أن يفتح شفتيه بكلمة اعتراض، أو تصدر عنه أي إساءة للقاضي الجريء، بل وأمر في اليوم نفسه ببناء جامع ملاصق لقصره ليؤدي فيه صلاة الجماعة.
وهو ما ذكره غير واحد من المؤرخين، مثل عثمان نزار في كتابه “حديقة السلاطين”، ونقله عنه الكاتب العراقي، أورخان غازي، في كتابه “روائع من التاريخ العثماني”.
ويذكر صاحب “الشقائق النعمانية” أنه وقع بين الفناري والسلطان خلاف، فترك الفناري مناصبه ورحل الى بلاد قرامان، وعين له صاحب قرامان كل يوم ألف درهم، ولطلبته خمسمائة درهم يوميا.
ثم إن السلطان ندم على ما فعله في حق الفناري، فأرسل إلى صاحب قرامان يستدعي الفناري، فأجابه وعاد إلى ما كان عليها من المناصب.
بعض المؤرخين الذين أكدوا واقعة رد شهادة السلطان، ذهبوا إلى أن سبب رد الشهادة كان شرب السلطان للخمر.
وذكر المؤرخ التركي المعاصر، إسماعيل حامي نشمند، في موسوعة التاريخ العثماني، أن السلطان ذهب يتفقد العمل في مسجد في بورصة، فالتقى العالم محمد شمس الدين البخاري.
وتوجه السلطان بسؤال إلى البخاري بشأن إن كان يوجد أي نقص في البناء، فأجابه العالم إجابة تنم عن شدة إنكاره على أفعال السلطان، فقال: “بالنسبة لنا نحن المسلمين فإننا لا نجد أي نقص في البناء، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإنني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب”.
لكن مؤرخين آخرين، أمثال المؤرخ التركي أحمد آق كوندز، رجحوا بشدة أن سبب رد الفناري لشهادة السلطان، كان تركه للصلاة في جماعة، وأنه لذلك أمر ببناء مسجد ملاصق للقصر، حتى يؤدي فيه صلاة الجماعة.
وبصرف النظر عن اختلافهم في سبب رد الشهادة، فإن الواقعة ثابتة بلا شك، ولها دلالات عظيمة، أهمها مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يظهر بقوة في هذه الرواية التاريخية، وهو المبدأ الذي تفتقر إليه معظم الدول في عصرنا الحالي، حيث يغيب استقلال القضاء، ويصبح فريسة للتسييس.
وكما يقول أورخان غازي: “عندما كان المسلمون يملكون أمثال هؤلاء العلماء ملكوا أمثال هؤلاء السلاطين”. وهذا التناسب الطردي مُشَاهد بقوة في التاريخ العثماني.
المصدر: الاناضول