مقالات

جلد الذات “على رصيف اسطنبول”

تعلم اللغة العربية بالتفاعل

جلد الذات “على رصيف اسطنبول”

بقلم مسعود حامد 

أحدث روايات الكاتب الصحفي والروائي المصري سامي كمال الدين “على رصيف اسطنبول” صدرت مؤخرا في تركيا عن دار موزاييك، الرواية تقع في 260 صفحة من القطع المتوسط.

ورغم أن الرواية تتوزع على عوالم سردية ثلاث هي طنجة والقاهرة واسطنبول فإن تحديده للمدينة التركية عنوانا يثير تساؤلاّ! ربما لأن الجزء الأوفر من الرواية كان في شوارعها وعلى أرصفتها ومقاهيها، أو ربما لمحاولة الروائي التماهي مع روايات سالفة اتخذت من اسطنبول عنوان كتابتها مثل رواية الأديب التركي أورهان باموق” اسطنبول الذكريات والمدينة” والتي سرد فيها  تاريخ مدينته، مستعينًا بذكرياته وبذكريات هؤلاء الذين سبقوہ؛ فكتبوا ورسموا وصوَّروا وأرَّخوا لمراحل حياة إسطنبول، وكذلك رواية “قطار استامبول” للكاتب الإنجليزي جراهام جرين، وهي من قصص الجاسوسية، وتقع أحداثها في قطار الشرق، وصدرت عام 1932، وكذلك رواية “لقيطة اسطنبول” للكاتبة التركية آليف شفق في عام 2006، لكن على “رصيف اسطنبول” تمثل سردية مصرية أخرى مصبوغة بألم المنفى ووجع الاغتراب السياسي المعجون  بالقهر والظلم والحنين.

سردية التداخل بين الذات والموضوع

لم تحفل الرواية كثيرا بشعرية السرد، إلا في المساحات الواصفة لمعالم المدينة ومطاعمها وحدائقها، وتناقلت من الوصف البلاغي الإيحائي المؤول إلى السرد الإبلاغي المباشر، بل عمدت أكثر بالواقعية السردية، كونها تستند في متنها الأساسي على وقائع حقيقية وأحداث مشهودة سيما عقب الانقلاب العسكري في مصر وهجرة المعارضة ساستها وإعلاميها من البلاد بعد قمعهم، لكن اللافت هو التداخل السردي بين ما هو عاطفي وما هو سياسي بين مغامرات البطل علاء الممثل، الذي أدمن  عشق النساء بعيدا عن زوجته التي يكرهها وتسيطر عليه، وارتباطه بالأمازيغية “ماتيا” التي عشقها في المغرب كما عشق الويسكي والمال، وبين اغترابه السياسي الذي ألزمه القهر وجلد الذات واستسلامه لسلطة الزوجة ولســـلطة الطاغية السياسي “شريف ملوخية” صاحب المؤسسة الإعلامية التي عمل بها فتحول إلى مجـــرد لعبـــة بالبيت والعمل معا، وهو الذي ظن نفسه متحررا، فتصدعت ذاته بين الماضي  بذكرياته والواقع المخادع الذي فصله عن الإحساس بالمعنى، والذي لم يفق منه إلا بواسطة الشباب

الرواية فصّلت تفصيلا مسهبا في إبراز السلوك الشائن بالنخبة المصرية المهاجرة، ما بين الشيخ البرهامي الذي يؤجر رأيه لمن يدفع أكثر، والإعلامي اللعوب المطبل لرئيسه، ونماذج شتى مركزة على دور السياسي النشط في تدجين القضية ما بين القاهرة واسطنبول، ومسترسلة في إبراز المفارقة بين أنماط الثراء التي تنعم بها نخب اسطنبول لاسيما “شريف ملوخية” الذي يملأ الشاشات عن العدالة الاجتماعية والقحط الذي يدهم الشباب ويجر بعضهم للانتحار.

شيد البناء الروائي على أجزاء خمسة ممتدة زمانيا على تحركات ممثل ضعيف الشخصية تسيطر امرأة عليه، وتبتّ في كل أمر نيابة عنه فتضطره إلى الهجرة بعد ما قلت أعماله الفنية عقب الانقلاب، فعمل بقناة ” الأحرار” ليصطدم بمجتمع الغربة المصري في اسطنبول غائصا في تناقضاته وكاشفا أزماته منتهيا إلى أن المعارضة السياسية التي تقلصت إلى صوت واحد ثم إلى مؤسسة إعلامية تحولت هي الأخرى إلى نوع من الانقلاب وليست بأحسن حالا من الانقلاب هناك.

يقول علاء ” تلقيت مكالمة هاتفية و”ماتيا” جالسة بجواري أصابتني بالصدمة.. فصل شريف ملوخية عشرة موظفين من القناة.. هم الذين أرفقتهم بالطلب الذي قدمته له لزيادة مرتباتهم.. ما المشكلة أن يطلب هؤلاء الشباب زيادة رواتبهم وهم الذين حملوا القناة على أكتافهم؟ ثابروا حتى تحقق نجاحها، جعلوها تؤثر في الشعب المصري وتصل إليه.. كان بعضهم ينام في مطبخ القناة بعد سهر متواصل لأجل أن تكون “قناة الأحرار” هي أكثر ما يزعج النظام الذي ترصد لها واستخدم كل إعلامه للهجوم عليها.. لكنه لم يستطع منع صوتها.

اقرا ايضا: إسطنبول 2020 رواية تكشف واقع الجاليات العربية وإعلامها

بعد فصلهم فوجئ العشرة موظفين بالتلفزيون المصري يعرض هوياتهم وصورًا من جوازات سفرهم، وتفاصيل حياتهم وصورهم، وعناوين عائلاتهم في مصر.. وهو ما كان له وقع الصاعقة عليهم، بل علينا جميعًا، لا أحد يعرف كيف سربت بياناتهم وصورهم وعرضت هكذا على المشاع أمام العالم كله.. ظنوا أن هناك اختراقا بينهم.. وأن خائنا باعهم، هاتفني أحدهم وقال: لقد نجح الدكتور ملوخية في خطته”.

وتداخل السرد بين أجزائه بين صوت علاء الممثل الذي كان يرينا العوالم والشخصيات بعينيه هو، وبين إظهار الحقائق من خلال أجندة شخصية وقعت سهوا في يد الراوي، وفيها تقص عشيقة شريف ملوخية ومديرة أعماله تاريخها معه شاهدة على أفعاله النكراء هنا وهناك.

لكن الشيء النقي في الرواية هو ما صوره علاء من نضال صاف وحقيقي لشباب الإعلاميين من خلال مقاومتهم للظلم المضاعف على قلة حيلتهم وهوان أمرهم.”

خاتمة رمزية

لم تخلُ رواية” على رصيف اسطنبول” من دلالة رمزية مضمرة في نسيج القص ومفتوحة على براح الإيحاء، فقبر عبدالله النديم الشاعر والخطيب والصحفي وأحد رموز الثورة العربية كان مرجعية الشباب الذين استلهموا منه نضالهم ونقاءهم الثوري فحاموا على قبره بحي بشكتاش وقرأوا شعره لاستكمال المسيرة، وهي خاتمة تنفتح على مسارات عدة ليس من بينها انكسار الروح. بل استرجاع شعره:

أتحسبنا إذا قلنا بُلينا……  بلينا أو يروم القلب لِينا

نعم للمجد نقتحم الدواهي….فيحسب خامل أنَّا دُهينا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى