إثارة قضية مذابح الأرمن اليوم يأتي بنتائج مختلفة ، فمع تغير الأوضاع والمعطيات تكون النتائج .. فالتأثير على الدولة التركية في السابق كان مؤذياً لتركيا، أما اليوم فقد طرأت متغيرات مؤثرة تاثيراً جذرياً على الملف..
من أهم المتغيرات اليوم ، هو انتهاء أزمة إقليم كاراباخ على هذا الشكل الذي كشف الكثير من الحقائق الراسخة والتي لا تقبل الجدل . فقد كشفت المعركة الأخيرة عن الصراع الطويل بين أرمينيا وأذربيجان عن ممارسات اجرامية مثبتة من قبل الأرمن في حق الأذريين سيما كون أرينيا تحتل أراض الغير ولا حق لهم فيها . وما إلى ذلك تورطها في مذابح ضد الأذريين ، سيما مذبحة مدينة خوجالي في إقليم ناقورنوكاراباخ التي احتلته ارمينيا قسراً وهجرت أصحابه . كل هذه الأحداث دمغت أرمينيا بصفة الدولة المتطاولة المعتدية والمارسة للإرهاب ضد المدنيين .
والجدير ذكره دور الدبلوماسية التركية في التعامل مع الملف ، ففي خضم الإتهامات بالقيام بالمذابح الارمنية من قبل الدولة العثمانية ـ جاءت ردة الفعل التركية في اتجاه وصفها بالحرب الاهلية التي مني فيها جميع الأطراف بالخسائر ، وذلك دون اللجوء لمهاجمة الأرمن، وهذا بلا شك تفسير مقبول لطبيعة الأحداث .
اقرأ أيضًا: “التقارب المحتمل بين مصر وتركيا”.. ماذا سيستفيد الطرفان منه؟
كانت فيما سبق آلة الغرب الإعلامية قوية وتتمتع بهيمنة وعربدة على كثير من الفضاءات سيما في داخل فضاءات الغرب نفسه ، ولها تاثير قوي على المؤسسات والمنظمات الدولية ، سيما ما يتعلق بحقوق الإنسان . وكانت إثارة الازمة مؤذية لتركيا، اليوم تغير الوضع ، إذا ما ذكرنا تأثير حقبة الانترنت المفتوح وولوجه إلى كل الفضاءات داخل المجتمعات . وباعتبار وجود الجاليات الإسلامية في الغرب وانفتاحها على المجتمعات والتي بدورها تنقل وتعكس رؤية مغايرة للهيمنة الإعلامية التي تدار من قِبل لوبيات معينة تكن العداء للإسلام وللثقافة الإسلامية والرؤية الإسلامية .
ولا شك إدارة المعركة الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا بما يتناسب مع طبيعة الصراع ، متمثلة بعدم توسيع المعركة لتشمل القضاء على أرمينيا نفسها . فمنذ اللحظات الأولى لتفجر الصراع كانت أذربيجان تعلن عن نيتها فقط تحرير الارض المحتلة ، وليس افناء أرمينيا والقضاء عليها ، في الوقت الذي حاولت أرمينيا جر اذربيجان لتبادل قصف المدن ، ومحاولتها شحن الصراع بمضمون ديني وتغليف الحرب بغلاف ديني عقائدي، وفشلها في محاولاتها ـ كل هذا صب في ضعف مزاعم أرمينيا وزيادة الشكوك في روايتها للأحداث التاريخية ، فالأحداث القريبة في كاراباخ وخوجالي أمثلة حية على عدم براءة الارمن بل ضلوعهم في جرائم موثقة .
في سابق الأزمان كان الغرب يتخذ من ملف مذابح الأرمن ذريعة في وجه تركيا لرفض قبولها في عضوية الاتحاد الأوروبي . اليوم أولويات تركيا في ملف عضويتها في الإتحاد الأوروبي تغيرت ، فسابقاً كانت تطلعات تركيا أن تستظل ببنية الاقتصاد الأوروبي وتحظى بمزياه السياسية والتجارية والصناعية، لكن اليوم تغيرت أوضاع اوروبا ومعها تغيرت أوضاع تركيا . فأولويات تركيا اليوم بالدرجة الأولى هي الأقليات المسلمة في داخل الفضاء الأوروبي والدفاع عن حقوقها ( جماعات ومكونات ودول) ، وبالتالي قضية المذابح الأرمنية بدأت تأخذ شكلاً قانونياً حين فقدت توظيفها كذريعة وكورقة رفض من قبل أوروبا . فأصبحت القضية هي ملف إتهام باطل يتطلب الوقوف عنده ومناقشته سيما أن تركيا تملك أرشيفها الخاص . فأولويات تركيا في اهتمامها بالمكونات المسلمة يتجانس مع الملف الارمني ، ويضع اوروبا أمام نفس الآلية ، سيما أن أوروبا متورطة في كثير الجرائم في حق المكونات التي اعتبرت تابعة للدولة العثمانية .
إثارة الرئيس بايدن للقضية في هذا التوقيت هو خطأ سياسي فادح ، سيما بعد اكتشاف أمر الأرمن في تورطهم في جرائم ضد الانسانية ضد مدنيين أذريين . فالجرائم الأرمنية في خوجالي التي حدثت قبل سبعة وعشرين عام تحمل حجج واثباتات اقوى من الإدعائات التي حدثت قبل مئة وستة أعوام ..
والجدير ذكره أن في خلال فترة الصراع تبنى الإعلام الأكراني والجورجي الدولتان الأقرب لأرمينيا ثقافيا ـ للرؤية الأذرية ، هذا في حد ذاته لا يصب في صالح الإدعات الأرمنية .
يبدو أن الرئيس بايدن باندفاعه في الهجوم على تركيا فاته الإلمام بمخرجات حرب اقليم قارباخ الاخيرة وما حملته من ملفات دامغة على كون أرمينيا متهمة وليست ضحية ،وتاثير هذه الإثباتات على ملف المذابح الذي يرفض الاوروبيون مناقشته مع تركيا .
عبدالفتاح ابو طاحون – ترك ميديا
