مقالات

في ذكرى وعد بلفور: السياسة تتلاعب بالتاريخ

تعلم اللغة العربية بالتفاعل

في ذكرى وعد بلفور: السياسة تتلاعب بالتاريخ

ترك ميديا – محمد شعبان صوان 

ليس هناك في موضوع الصهيونية في زمن الدولة العثمانية أي معطيات جديدة، وأي باحث حرص على حشد أي دليل ضد العثمانيين مهما كان واهياً لم يزعم أنه عثر على أي وثائق جديدة تقلب المشهد الذي وصل إلينا من شهود العيان أنفسهم قبل أي سجلات، والأمر أصلاً ليس بحاجة لأي وثيقة لأن الدولة العثمانية انتهت وعدد اليهود في فلسطين ٥٦ ألفاً فقط، كانوا أقلية ضمن الأقليات، ليس هناك أي وثيقة تغير هذا الواقع، فقد وصلت ضآلته إلينا بالتواتر ومن بديهيات السياسة الدولية التي نصبت بريطانيا لتغييره بعدما تعهدت بذلك في وعد بلفور، ولولا بؤس المشهد الصهيوني في زمن العثمانيين لما بذل الصهاينة مساعيهم المستميتة مع الكبار ولما كان هناك أي معنى لوعد بلفور فضلاً عن كونه انتصارهم الأكبر، هذه بديهيات تاريخ فلسطين والعبث بها مجرد محاولات سياسية لتلميع أنظمة مفرطة.

وبعد زوال الدولة العثمانية وسيادتها لا يمكننا أن نحاسبها على أي تغيير أو استغلال لظرف كان قائماً في وقتها، السؤال ماذا فعل الاستعمار الأجنبي وثوار العرب ودول التجزئة بعد هذه ال ٥٦ ألفاً؟ هل أزيلت أم تضاعفت أضعاف الأضعاف؟ هنا المسئولية وليس في استغلال السيادات اللاحقة لوضع ضئيل كان في زمن العثمانيين ولو استمرت سيادتهم ألف سنة قادمة لظل هذا الوضع ضئيلاً، وقد دفع العثمانيون ٢٥ ألف شهيد من جيشهم للحفاظ على سيادتهم في فلسطين وحدها لتبقى عروبتها التي حافظ عليها السلطان عبد الحميد كما تقول الدكتورة فدوى نصيرات، فالمسئولية الحصرية في ضياع فلسطين هي على الذين مهدوا الطريق لدخول بريطانيا التي ضخمت هذا الوضع اليهودي بعد زوال السيادة العثمانية وجعلته بالحجم القادر على الاستقلال بالسيادة وطرد ملاك فلسطين الأصليين، ولو اشتغل البشر بمنطق الرعب من تضخم أي بذرة يبذرونها تضخماً بغير إرادتهم لما قام بشر بفعل واحد في الخير أو الشر.

اقرا ايضا: بيعة السلطان عبد الحميد الثاني ومسألة الدستور

فمثلاً يمكن أن يخشى الإنسان من ولادة ولد معاق، فلا زواج إذن، وقد يخشى من فشل عمل تجاري، فلا يشتغل، وقد يخشى من عقوق ابن فلا ينجب، وقد يخشى من سقوط سقف بيته فلا يبني، وقد يخشى من الخسارة فلا يعمل، وقد يخشى من الهزيمة فلا يقاتل، وقد يخشى من وقوع سلاحه بيد عدوه فيبقى أعزل، وهكذا، هذه كلها بذور نبتت على وجه لم يرغبه من بذر البذرة ولكن لا يمكن تحميل المسئولية للفعل الأول، ولو بحثنا في تواريخ كل التغيرات والحروب والاحتلالات لوجدنا أن الأعداء يستغلون أوضاعاً كانت قبلهم فيعيدون صياغتها بالتضخيم أو التحريف أو الخلط بحيث تخرج عن حجمها الصغير الذي كان فيما قبل قدومهم وتصبح ظواهر جديدة بأشكال جديدة وامتدادات جديدة وآثار جديدة لا علاقة لها بما مضى، وقد تقع ترسانة أسلحة بيد عدو قهراً وتستخدم في العدوان على صاحبها الأصلي، ولكن لا يمكننا أن نلوم من زرع الحقل ليحصل على معيشته أن اللصوص هجموا عليه ودمروا بيته وقتلوه ثم استفادوا من حصاده في تقوية أنفسهم، ونبحث عن دوره في “تسهيل” مهمة هؤلاء اللصوص لأنه كان قد بذر البذور التي أنتجت الثمار التي أفادوا منها، وننسى أن زوال هذا المزارع كان الشرط الضروري لوصول اللصوص إلى مزرعته، وأنه لم يخطئ عندما رتب حياته بموارد على قدر حاجته، ولا يمكننا أن نتهمه بالتواطؤ معهم على خراب بيته ونهاية حياته، هذا عبث وسخف، فالظرف كله كان أقوى من إرادته وإمكاناته، والكثرة تغلب الشجاعة، وبغير هذا المنطق تتوقف الحياة.

الواقع اليهودي زمن الدولة العثمانية كان في إطار سياسي محدد لا يمكن أن يؤدي إلى ما أنجزه الإنجليز بعد ذلك، كان اليهود ضمن إطار بقية الأقليات في الدولة العثمانية، الغرب هو الذي أخرج كل هذه الأقليات من الإطار العثماني الجامع وتلاعب بهم فأعطى الاستقلال من أعطى وحرم منه من حرم، بوحي كامل من المصالح الغربية وحدها، ولهذا دخلت المنطقة في اضطراب مستمر منذ لحظة التقسيمات الغربية للتركة العثمانية إلى هذا اليوم، ولذلك أطلق المؤرخ ديفيد فرومكين على السلام الذي أعقب الحرب الكبرى الأولى أنه سلام ليس بعده سلام، كان اليهود قبل ذلك في إطار الأقليات، ولم يخرج وجودهم في فلسطين والشام عن هذا الإطار طوال استمرار الخلافة العثمانية، بوتقة التعايش في بلاد الشام هي الحل الذي رفضوه ورفسوه منذ البداية، كان هذا هو الحل في ظل الدولة العثمانية، التعايش والأخوة، أكثر من مؤرخ من المدرسة الغربية أشار لذلك الوضع، منهم من أطلق صفة الأخوة العثمانية عليه (ميشيل كامبوس)، ومنهم من وصف عملية نشوء الكيان الصهيوني بأنها انتقال من التعايش إلى الهيمنة في السنوات بين ١٨٩١-١٩٤٩ (فكتور قطان)، ومنهم من وصف المشهد بأنه التعايش الذي شهد التحولات بعد ذلك (فانسان لومير)، ومنهم من وثق دور بريطانيا في تعميق الطائفية في فلسطين (لورا روبسون)، وحدهم أبواق الأنظمة العربية التي تلهث خلف الاستسلام حرفوا المشهد العثماني ليسقطوا عليه عيوبهم هم وعيوب أنظمتهم العميلة، لو استمرت السيادة العثمانية لما ظهرت المشكلة الفلسطينية، مهما زاد عدد اليهود فهم مجرد أقلية في البحر العثماني الكبير آنذاك، تبدل السيادة هو الزلزال الذي حل ببلادنا كما يقول الدكتور وليد الخالدي، ولا يمكن محاسبة دولة لأن من خلفها غيّر المنظومة التي كانت قائمة في عهدها لتناسب أطماعاً جديدة، كما لا يمكننا لوم من اخترع الدواء لأن هناك من استخدمه بإفراط أدى إلى الوفاة، كذلك لا يمكننا أن نلوم من قدم نموذجاً استثنائياً في التعايش (الذي يتباكون عليه بنفاق ويحاولون إلقاء دروسهم المملة علينا بشأنه ويتناسون تاريخنا المشرق وتاريخهم وواقعهم المظلم)، نعم يلوموننا لأن هناك من استخدم دواءنا بصورة محرفة ومختلفة عن وصفتنا فأنتج سماً لا نريده، فالاستعمار هو الذي غيّر المشهد الماضي من جذوره، فوضع الحدود السياسية الفاصلة وضخم الحضور اليهودي في تلك البقعة الصغيرة فصار مركّزاً، وليس ذائباً ومستوعَباً، وأمده بأسباب الوجود المستقل بإرادة دولية هي نفسها التي أشرفت على تصفية التركة العثمانية وتوزيعها بين الكبار اللئام، بزوال السيادة العثمانية انتهت المسئولية وانتقلت إلى بريطانيا، لتقوم بتغيير التركيبة العثمانية من جذورها، هل يتصور أحد أن تقوم حرب كبرى اليوم تغيّر الخرائط السياسية والديمغرافية الحالية تغييراً جذرياً فتصبح الدول الخليجية مثلاً كيانات آسيوية استناداً إلى كميات العمالة الآسيوية الضخمة التي تفوق أعداد السكان الأصليين أحياناً؟ من يطرح هذا الاحتمال يتهم بالجنون اليوم، ولكن هذا لا يعني عدم وجود أصوات عالية تحذر من عواقب الوجود الآسيوي الضخم في الخليج، ولا يعني أن أحداً يملك مفاتيح الغيب التي قد تأتي بغير المتوقع كما يحدث كثيراً، فهل يمكن لو فتحت الاحتمالات على مصاريعها وتغير الوضع الحالي جذرياً أن يوجه اللوم للمعاملات العادية التي جرت بين الخليج وآسيا واستقدمت منذ زمن طويل أعداداً من العمال والتجار وغير ذلك؟ هل يمكن أن يوجه مؤرخ عاقل أصابع الاتهام لكل من تعامل مع الهند أو استقدم عمالاً من الفلبين أو فتح مكتب توظيف ليثبت بذلك إدانة البدايات التي “سهلت” المستقبل غير المتوقع؟ فيحصي عدد العمال في الشركات والخدم في البيوت والتجار في محلاتهم بصفة كل ذلك خطوات “تسهيل” الاحتلالات التي قد تجيء بها حروب غير متوقعة تماماً كما جاءت الحرب الكبرى الأولى وتبعاتها بشكل غير متوقع في زمنه.

لقد كانت الحرب الكبرى الأولى وتبعاتها ضمن الغيب البعيد قبل وقوعها، كما تبدو اليوم أي تغيرات فيما يبدو الاستقرار الحالي، رغم كل الاضطرابات في دنيا العرب، ولهذا يجب أن ننظر للحدث كما كان في زمنه لا أن نتصنع الحكمة المتأخرة، والغرب لم يكن يهمه وضع اليهود الذين كانوا آمنين فعلاً في ظل سيادة المسلمين، زالت سيادة المسلمين فتغير المشهد الذي صنعوه بإتقان أثار الإعجاب والحسد معاً، الغرب أراد استغلال اليهود في محرقة مصالحه، وفّر أبناءه وحشر اليهود في مقدمة المدفع، ولهذا دمروا حل التعايش والأخوة، وجاءوا بالهيمنة التي بنيت على صنم العلمانية الأقدس وهو المصالح المادية، وبعد كل ذلك يتهمون المسلمين بالتفريط، والغريب أنهم عندما ينتقلون إلى الحديث في مجالات أخرى يتهمون المسلمين أنفسهم بالإفراط في التضييق على اليهود خاصة، والتهمتان المتناقضتان قائمتان على اجتزاء الأدلة وانتزاع الأحداث من سياقها وإسقاطها على ظروف مغايرة وأزمنة وأمكنة مختلفة وعدم رؤية المشاهد الكلية، فما الذي يريدونه بالضبط؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى