مقالات

شاهد على عالَمنا: محمد أمين سراج

تعلم اللغة العربية بالتفاعل

شاهد على عالَمنا: محمد أمين سراج

ترك ميديا

الكاتب: ياسين اقطاي

قد رحل عالِم جديد عن هذا العالَم. كان واحدًا من أكثر الشهود قيمة ومكانة على عالَمنا هذا الذي شكّلنا وأرهقنا ومنحنا رفاهيته، سواء من حيث أبعاد هذا العالَم الخفية أو الواضحة على حدّ سواء، وذلك من خلال الطلاب الذين أنشأهم الشيخ سراج والعلوم التي قدّمها.

محمد أمين سراج عالِم وسيد عالَمه الخاص قد رحل إلى ربه حيث دار البقاء.

أذكر الحديث النبوي الشريف الذي يفيد بأنّ موت عالِم يعني موت عالَم، أذكر هذا الحديث وأنا أستشعر خطورة تحول الأمر لمجرد كلام مبتذل يفقد معناه مع مرور الوقت من خلال تكراره بعد وفاة كل عالِم.

لا بد من إدراك وفهم معنى ذلك بشكل جيد. ما هي العلاقة بين العالَم والعالِم؟ كيف يموت عالَم بموت عالِم؟ وما الذي يحدث للناس الذين حظوا من هذا العالِم ونهلوا من علمه؟

إن كل عالِم يخلق عالَمه الخاص بعلمه وجهوده ومسيرته وكفاحه. وإن العلماء الحقيقيين من خلال علمهم ومعرفتهم؛ يمكن أن يشاهدوا كيفية إنشاء هذا العالم، ومن يأخذ؛ وكم يأخذ نصيبًا منه، ومن يقف جانبًا أو منكفئًا دون شيء.

محمد أمين سراج كان في الحقيقة عالمًا عاش في داخلنا جميعًا، وكان مصدر معرفة ونهل لأغلب الناس. كان واحدًا منّا من جانب ما، ولكن كان أكثر من ذلك من جانب آخر.

كان من أكثر الشهود حضورًا على ما عاشه عالمنا في القرن الماضي، بشتى ومختلف طرقه ومحطاته.

لقد كان أحد الفاعلين الرئيسيين الذين قدموا جهودًا لإحياء المسلمين من جديد، حيث سلبوا من روحهم وتحولوا لجسد هامد، إبّان فترة حكم الحزب الواحد الذي تعمد ذلك، وحرمهم من وحدة جسدهم اجتماعيًّا وسياسيًّا.

بفضل ذلك الجهد الذي قدمه الشيخ محمد أمين سراج تمكن من أن يمثّل شريحة مهمة من جيله. ولقد كانت الكتلة السياسية آنذاك التي تعمدت حرمان المسلمين من وحدة جسدهم السياسي، تحاول في الوقت ذاته إظهار سيطرتها على الأفراد أيضًا أو الأجساد الفردية إن صح التعبير.

ولذلك السبب كان يُنظر إلى الملابس والقبّعات التي تم فرضها على هذه الأفراد؛ على أنه ليست مجرد ملابس أو قبعات، بل استسلام طوعيّ للعدو الذي تمت مقاومة احتلاله في الميدان. ما يعني أن التهافت وراء تقليد هذا العدو الذي هزمناه للتو في أرض المعركة، قد سلب كل ادعاءات النصر ومعانيه.

هل كان من الممكن ان يُنظر لتغيير الأبجدية (من أحرف عربية إلى لاتينية) على أنه إصلاح؟ ولنفترض أنه إصلاح؛ إذن لمواجهة من كانت تلك المعارك وذلك الكفاح، ضدّ من بالتحديد؟

انطلقت رحلة الشيخ أمين سراج العلمية في ذلك الجو تمامًا، في بيئة توتر ملحوظ. ولا شك أنّ تلك البيئة بحد ذاتها على الرغم من مضي وقت طويل بعدها، لا تزال تشكل التوتر الأساسي للمناخ السياسي اليوم.

كتب بالأمس صديقاي، يوسف كبلان، وإسماعيل كتشوك كايا، عن تلك البيئة التي نشأ فيها الشيخ سراج إبان تلك المرحلة، وعن المصادر التي تغذى منها، ووصوله لتلك المصادر، والنضال الذي بذله للوصول إلى هذه الموارد، وحفاظه على علاقة المعلم وطالبه؛ التي كانت تجمعه مع معلميه.

كم تبدو غريبة اليوم تلك القصص الكثيرة التي تحكي عن أناس حوكموا وأدينو وعوقبوا أو وأوذوا، بسبب تعليم اولادهم القرآن فحسب! لقد كان الشيخ أمين سراج ضمن مسيرة حياته وبجميع مكتسباته أكثر الشهود حضورًا على ما عاشته تلك الحقبة.

أعتقد أن راسم أوزدينون في روايته “الرجل الذي يغرس الورود”، أفضل من يحكي حول تلك الحقبة ونضالاتها، وعن أساتذة العلم وطلابهم الذين قدّموا نضالات واسعة. ولطالما ذكرته في مناسبات عدة، ومن المفيد ذكره مرة أخرى.

رواية “الرجل الذي يغرس الورود ” يحكي مأساة علماء حقبة تأسيس الجمهورية، ولكنه ينتهي برسائل تبعث على الأمل.

تحكي الرواية بلغة غاية في البراعة حال العلماء الذين كانوا يبذلون جهودًا للحفاظ على الأجيال القادمة ومستقبلها من خلال ما أسماه زراعة الورود، لا سيما بعد الانقلاب على الأبجدية العثمانية.

ومن خلال الطفل الذي هو أحد عناصر الرواية، يشير الكاتب إلى أنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن ينقل ماضي هؤلاء العلماء نحو المستقبل والجيل القادم.

هؤلاء العلماء الذين دخلوا هذه المعركة من أجل غرس الثمار وتنشئة الأطفال، وضعوا جهودهم وتجاربهم في عموم تركيا كلها.

لا شك أنّ الشيخ محمد أمين سراج كان واحدًا بين أولئك الذين غرسوا ثمارًا في تلك الحقبة، بل وأسسوا أجيالًا بأكملها، ولم يتردّد لحظة في تنشئة هذه الأجيال وغرس الورود دون توقف.

لم يكتف الشيخ سراج من أجل نهل العلوم بالبقاء في تركيا فحسب، بل ذهب إلى مصر عام 1950، حيث كانت في ذلك الوقت أفضل دولة للتحصيل العلمي إلى حدّ كبير على مستوى العالم الإسلامي. التحق بجامعة الأزهر، واشتغل في تحصيل العلوم هناك لمدّة 9 سنوات، كما كان شاهدًا على أهم الفترات التي عاشتها مصر في تلك الحقبة.

كان شاهدًا على الحقبة التي أطيح خلالها بالملك فاروق، ثم وصول جمال عبد الناصر إلى السلطة بانقلاب عسكري آخر، والمجازر التي ارتكبها ضدّ جماعة الإخوان المسلمين.

كان الشيخ أمين سراج شاهدًا أيضًا على مراحل وأحداث تاريخية مهمة في العالم الإسلامي.

خلال مسيرته العلمية التقى بالعديد من رجالات العلم حول شتى بقاع العالم الإسلامي، وأسس علاقة صداقة مع أهم أهل العلم في العالم الإسلامي. كانت صداقة تجمع بينه وبين الشيخ يوسف القرضاوي على سبيل المثال. ولقد أتيحت لي الفرصة لرؤيتهما معًا، عام 2016، خلال أمسية تم تنظيمها آنذاك.

بعد عودة الشيخ أمين سراج من مصر، عاد إلى تركيا من جديد ليواصل مسيرته العلمية والتعليمية، لينهل منه ويترعرع على يديه الكثير من الطلاب. وقد كان له تأثيره المباشر وغير المباشر واضحًا بشدة على الطلاب الذين ترعرعوا على يديه لا سيما مع مستويات النجاح التي وصلوا لها. على سبيل المثال، من بين أعظم هذه التأثيرات، الإنجاز الذي قام به كلّ من بكر كارليغا، وإسماعيل حقي شانغولر، في ترجمة “تحت ظلال القرآن” لسيد قطب.

ندعو الله أن يتغمده في عليين.

ملاحظة: أود في هذه المناسبة أن أترحم على قادر توباش رئيس بلدية إسطنبول السابق، الذي هو أيضًا قد نهل من الشيخ سراج.

رحمهما الله، وجعل مقامهما في عليين.

 

المصدر: يني شفق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى